تعدّ
مهنة الطبيب من أشرف المهن وأعلاها قدرا ومنزلة، وهي كذلك من المهن الصعبة
التي تتطلب ذكاء حادّا، وصبرا طويلا، وقدرة كبيرة على التمييز بين الأعراض
المتشابهة التي قد تلتبس عند التشخيص· ومنذ القِدَم ينظر الناس إلى الطبيب
نظرة خاصّة ملؤها التقدير والتعظيم والاحترام· بل إنّ التاريخ يرسم للطبيب
في كثير من المجتمعات صورة تجعله قبلة الناس في كل صغيرة وكبيرة، فهو
ملاذهم، وطبيبهم، وصديقهم الذي يعرف أكثر مما يعرفون، والذي رزقه الله
الفطنة والحكمة والمحبة والتواضع، فعلا عليهم بعلمه النادر، ودنا منهم
بخلقه الكريم·
وما
زالت مهنة الطب، محاطة بهالة من التقديس والتقدير، فالناس - في الأغلب
الأعم- يعاملون الأطباء بقدر كبير من الاحترام، وينظرون إليهم على أنهم من
النخبة في المجتمع، ومن القلّة القليلة التي تحظى بقدرات ومؤهلات يعجز
الكثيرون عن تحقيقها· ورغم ذلك فإنه يبدو لي أنّ هذه الهالة التي نَعِم
بها الأطباء زمنا طويلا قد بدأت تتلاشى شيئا فشيئا، وأخذ بريقها يخبو، حتى
غدا الطبيب - في بعض الأحيان- مصدرا للهمّ، وسببا للمرض، بل قد يصل الأمر إلى
أن تنعكس الآية، فيصير الطبيب سببا للموت، بعد أن كان سبب الخلاص والنجاة·
ولا شكّ أنّ هذه الصورة السلبية عن الطبيب تمثل الاستثناء على القاعدة؛
فما زال كثير من الأطباء يحتفظون بما اكتسبوه - على مدى تاريخهم الطويل-
بالثقة والاحترام والمحبة والتقدير· ومع ذلك فإنّ المرء يشعر بأنّ
الاستثناء آخذ في الاتساع، وبأنّ أخطاء الأطباء قد صارت اليوم أقرب إلى
الروتين اليومي الذي تجد فيه وسائل الإعلام مادة جيدة تقدمها إلى قرائها·
فالقصص التي نسمعها في الإذاعة، أو نقرؤها في الصحف، أو نمرّ بها شخصيا مع
أطباء من مختلف التخصصات وفي مستشفيات متعددة في الدولة، تجعلنا نراجع
أنفسنا وتصوراتنا التي ننطلق منها في تعاملنا مع الأطباء· فلم يعد الطبيب
- في أيامنا هذه- مصدرا نثق به ونعوّل عليه فيما يتعلق بصحتنا وصحة
المقرّبين منا·
وإذا
كان الخطأ واردا في كل مهنة، فإنه في مهنة الطبّ لا يُغتفر، لأنه متعلق
بحياة الناس، وصحتهم التي لا يعدلها شيء في الحياة، والتي -إنْ فُقدت-
حُرِم الإنسان بفقدانها بهجة الحياة وطعم السعادة، وأصبح عبئا على نفسه
وعلى الآخرين من حوله· ولذلك تجد الناس لا يتسامحون مع الأطباء الذين
يخطئون في تشخيص مرضهم أو مرض أحد أقربائهم، وتراهم لا حدّ لغضبهم وسخطهم،
ولا نهاية للمرارة التي يتجرعونها صباح مساء، ولا قدرة للزمن - مهما طال-
أن ينسيهم بأنّ ما يتجرعونه كان بسبب شخص وثقوا به، ووضعوا بين يديه
أجسادهم يفعل بها ما يشاء·
والذي
يلفت الانتباه - في أيامنا هذه- أنّ كثيرا من الأطباء يتعاملون مع المرضى،
خاصّة كبار السنّ منهم، بقدر واضح من اللامبالاة، والآلية بحيث يغدو
الحوار بين الطبيب والمريض، أو بين الطبيب وأهل المريض، إن كان المريض
عاجزا عن التواصل مع الطبيب، خاليا من البعد الإنساني العميق الذي يحرك في
قلب الطبيب العطف والإشفاق على حال مرضاه، فيجعله مهموما بهمهم، قلقا
بقلقهم، يعطيهم من نفسه - قبل طبّه- ما يمسح به على نفوسهم المتعبة
الخائفة، ويقبل عليهم بوجهه وروحه وكل جوارحه، فيريهم منه الحرص والحب
والمودّة· لقد رأيت بنفسي- في مواقف كثيرة- كيف دخل مجموعة من الأطباء مع
طلابهم على المريض في غرفة العناية المركزة، فيتحاورون فيما بينهم بلغة
علمهم التي لا يفقه المريض منها شيئا، والمريض معلقة عيناه بوجوههم، يحاول
أن يستقرئ منها ما يهدئ به نفسه ويطمئن فؤاده، ولكنه لا يحظى منهم إلا
بنظرة سريعة وابتسامة يصطنعونها اصطناعا، وعبارة مفرغة من المعنى يكررونها
على كل مريض، وهم يودعونه ليدخلوا على غيره·
وكثيرا
ما يقع أهل المريض في حيرة وقلق، وهم يحاولون أن يستنطقوا الطبيب، وأن
يلفتوا انتباهه إليهم، فلا يحظون منه إلا بوقفة قصيرة، يطمئنهم فيها بأنهم
يقومون باللازم، وأنّ حالة مريضهم مستقرة، وأنه لا داعي للقلق عليه·
ويزداد الأمر سوءا حين يذهب المريض إلى طبيب في عيادة خاصة؛ إذ يشعر المرء
أنّ الطبيب يفعل قصارى ما بوسعه ليستنزف أموال المريض قبل أن يجود عليه
بتشخيصه الذي قد يكون تشخيصا خاطئا في النهاية·
كثيرا
ما أتساءل: هل كلّ من حصل على معدل عال في الثانوية العامة مؤهل ليدرس
الطبّ، ويصبح طبيبا يعالج الناس؟ وهل كل من درس الطبّ درسه لأنه وضع لنفسه
غاية عظيمة هي خدمة الناس، والتخفيف من آلامهم، والتضحية بالوقت والكثير
من مباهج الحياة من أجل إسعادهم؟ أم أنّ الكثيرين ممن يختارون الطب
يختارونه للسمعة والمركز واللقب البرّاق، الذي ما زال يبهر الناس، ويحظى
بتقديرهم وتعظيمهم؟ وهل يكفي أن يكون الطبيب بارعا في تخصصه، ذكيا عبقريا؟
من دون أن يخفق فؤاده تأثرا وألما لمعاناة مرضاه، ومن دون أن يشعر بما
يختلج في نفوسهم من خواطر وأفكار تقض مضجعهم، وتزيد همّهم وقلقهم؟
لا
أقول إن الطبيب يجب أن يكون منزها عن الخطأ، فالخطأ وارد في كل مهنة، ومع
كل إنسان، ولكن حين يقع الخطأ بسبب الإهمال أو اللامبالاة أو التسرع أو
عدم التدقيق أو عدم الوعي بإنسانية هذه المهنة وعظمها وحاجتها إلى الحسّ
المرهف، والقلب الرحيم، فإنّ من حقنا أن نحاسب أمثال هؤلاء الأطباء، ومن
حقنا أن نرفع صوتنا عاليا بالشكوى، ومن واجب المجتمع أن يحاسبهم وأن
يعاقبهم· فالجرائم لها أشكال كثيرة، وقد يكون أخطرها على الإطلاق تلك التي
تتلبس بثوب آخر غير ثوبها، فلا يراها الناس على حقيقتها، ولا يشعرون
بخطرها وفداحة أثرها على مجتمعهم، فيغضون البصر عنها، وينظرون إليها بعين
التساهل والتسامح، حتى تغدو مما لا قدرة لهم على الإحاطة به والسيطرة
عليه· لا عذر للطبيب المقصّر المهمل، ولا قبول للطبيب الذي يرى في مهنته
وظيفة يسترزق منها فقط· ولكل الأطباء الشرفاء التقدير والاحترام·
مهنة الطبيب من أشرف المهن وأعلاها قدرا ومنزلة، وهي كذلك من المهن الصعبة
التي تتطلب ذكاء حادّا، وصبرا طويلا، وقدرة كبيرة على التمييز بين الأعراض
المتشابهة التي قد تلتبس عند التشخيص· ومنذ القِدَم ينظر الناس إلى الطبيب
نظرة خاصّة ملؤها التقدير والتعظيم والاحترام· بل إنّ التاريخ يرسم للطبيب
في كثير من المجتمعات صورة تجعله قبلة الناس في كل صغيرة وكبيرة، فهو
ملاذهم، وطبيبهم، وصديقهم الذي يعرف أكثر مما يعرفون، والذي رزقه الله
الفطنة والحكمة والمحبة والتواضع، فعلا عليهم بعلمه النادر، ودنا منهم
بخلقه الكريم·
وما
زالت مهنة الطب، محاطة بهالة من التقديس والتقدير، فالناس - في الأغلب
الأعم- يعاملون الأطباء بقدر كبير من الاحترام، وينظرون إليهم على أنهم من
النخبة في المجتمع، ومن القلّة القليلة التي تحظى بقدرات ومؤهلات يعجز
الكثيرون عن تحقيقها· ورغم ذلك فإنه يبدو لي أنّ هذه الهالة التي نَعِم
بها الأطباء زمنا طويلا قد بدأت تتلاشى شيئا فشيئا، وأخذ بريقها يخبو، حتى
غدا الطبيب - في بعض الأحيان- مصدرا للهمّ، وسببا للمرض، بل قد يصل الأمر إلى
أن تنعكس الآية، فيصير الطبيب سببا للموت، بعد أن كان سبب الخلاص والنجاة·
ولا شكّ أنّ هذه الصورة السلبية عن الطبيب تمثل الاستثناء على القاعدة؛
فما زال كثير من الأطباء يحتفظون بما اكتسبوه - على مدى تاريخهم الطويل-
بالثقة والاحترام والمحبة والتقدير· ومع ذلك فإنّ المرء يشعر بأنّ
الاستثناء آخذ في الاتساع، وبأنّ أخطاء الأطباء قد صارت اليوم أقرب إلى
الروتين اليومي الذي تجد فيه وسائل الإعلام مادة جيدة تقدمها إلى قرائها·
فالقصص التي نسمعها في الإذاعة، أو نقرؤها في الصحف، أو نمرّ بها شخصيا مع
أطباء من مختلف التخصصات وفي مستشفيات متعددة في الدولة، تجعلنا نراجع
أنفسنا وتصوراتنا التي ننطلق منها في تعاملنا مع الأطباء· فلم يعد الطبيب
- في أيامنا هذه- مصدرا نثق به ونعوّل عليه فيما يتعلق بصحتنا وصحة
المقرّبين منا·
وإذا
كان الخطأ واردا في كل مهنة، فإنه في مهنة الطبّ لا يُغتفر، لأنه متعلق
بحياة الناس، وصحتهم التي لا يعدلها شيء في الحياة، والتي -إنْ فُقدت-
حُرِم الإنسان بفقدانها بهجة الحياة وطعم السعادة، وأصبح عبئا على نفسه
وعلى الآخرين من حوله· ولذلك تجد الناس لا يتسامحون مع الأطباء الذين
يخطئون في تشخيص مرضهم أو مرض أحد أقربائهم، وتراهم لا حدّ لغضبهم وسخطهم،
ولا نهاية للمرارة التي يتجرعونها صباح مساء، ولا قدرة للزمن - مهما طال-
أن ينسيهم بأنّ ما يتجرعونه كان بسبب شخص وثقوا به، ووضعوا بين يديه
أجسادهم يفعل بها ما يشاء·
والذي
يلفت الانتباه - في أيامنا هذه- أنّ كثيرا من الأطباء يتعاملون مع المرضى،
خاصّة كبار السنّ منهم، بقدر واضح من اللامبالاة، والآلية بحيث يغدو
الحوار بين الطبيب والمريض، أو بين الطبيب وأهل المريض، إن كان المريض
عاجزا عن التواصل مع الطبيب، خاليا من البعد الإنساني العميق الذي يحرك في
قلب الطبيب العطف والإشفاق على حال مرضاه، فيجعله مهموما بهمهم، قلقا
بقلقهم، يعطيهم من نفسه - قبل طبّه- ما يمسح به على نفوسهم المتعبة
الخائفة، ويقبل عليهم بوجهه وروحه وكل جوارحه، فيريهم منه الحرص والحب
والمودّة· لقد رأيت بنفسي- في مواقف كثيرة- كيف دخل مجموعة من الأطباء مع
طلابهم على المريض في غرفة العناية المركزة، فيتحاورون فيما بينهم بلغة
علمهم التي لا يفقه المريض منها شيئا، والمريض معلقة عيناه بوجوههم، يحاول
أن يستقرئ منها ما يهدئ به نفسه ويطمئن فؤاده، ولكنه لا يحظى منهم إلا
بنظرة سريعة وابتسامة يصطنعونها اصطناعا، وعبارة مفرغة من المعنى يكررونها
على كل مريض، وهم يودعونه ليدخلوا على غيره·
وكثيرا
ما يقع أهل المريض في حيرة وقلق، وهم يحاولون أن يستنطقوا الطبيب، وأن
يلفتوا انتباهه إليهم، فلا يحظون منه إلا بوقفة قصيرة، يطمئنهم فيها بأنهم
يقومون باللازم، وأنّ حالة مريضهم مستقرة، وأنه لا داعي للقلق عليه·
ويزداد الأمر سوءا حين يذهب المريض إلى طبيب في عيادة خاصة؛ إذ يشعر المرء
أنّ الطبيب يفعل قصارى ما بوسعه ليستنزف أموال المريض قبل أن يجود عليه
بتشخيصه الذي قد يكون تشخيصا خاطئا في النهاية·
كثيرا
ما أتساءل: هل كلّ من حصل على معدل عال في الثانوية العامة مؤهل ليدرس
الطبّ، ويصبح طبيبا يعالج الناس؟ وهل كل من درس الطبّ درسه لأنه وضع لنفسه
غاية عظيمة هي خدمة الناس، والتخفيف من آلامهم، والتضحية بالوقت والكثير
من مباهج الحياة من أجل إسعادهم؟ أم أنّ الكثيرين ممن يختارون الطب
يختارونه للسمعة والمركز واللقب البرّاق، الذي ما زال يبهر الناس، ويحظى
بتقديرهم وتعظيمهم؟ وهل يكفي أن يكون الطبيب بارعا في تخصصه، ذكيا عبقريا؟
من دون أن يخفق فؤاده تأثرا وألما لمعاناة مرضاه، ومن دون أن يشعر بما
يختلج في نفوسهم من خواطر وأفكار تقض مضجعهم، وتزيد همّهم وقلقهم؟
لا
أقول إن الطبيب يجب أن يكون منزها عن الخطأ، فالخطأ وارد في كل مهنة، ومع
كل إنسان، ولكن حين يقع الخطأ بسبب الإهمال أو اللامبالاة أو التسرع أو
عدم التدقيق أو عدم الوعي بإنسانية هذه المهنة وعظمها وحاجتها إلى الحسّ
المرهف، والقلب الرحيم، فإنّ من حقنا أن نحاسب أمثال هؤلاء الأطباء، ومن
حقنا أن نرفع صوتنا عاليا بالشكوى، ومن واجب المجتمع أن يحاسبهم وأن
يعاقبهم· فالجرائم لها أشكال كثيرة، وقد يكون أخطرها على الإطلاق تلك التي
تتلبس بثوب آخر غير ثوبها، فلا يراها الناس على حقيقتها، ولا يشعرون
بخطرها وفداحة أثرها على مجتمعهم، فيغضون البصر عنها، وينظرون إليها بعين
التساهل والتسامح، حتى تغدو مما لا قدرة لهم على الإحاطة به والسيطرة
عليه· لا عذر للطبيب المقصّر المهمل، ولا قبول للطبيب الذي يرى في مهنته
وظيفة يسترزق منها فقط· ولكل الأطباء الشرفاء التقدير والاحترام·